بطرك الروم والسلطان العثماني:
كي تتضح دلالة هذا العنوان، دعونا نرجع إلى القرن الرابع الميلادي، حينذاك كان الفرس والرومان يتقاسمون الشرق الأوسط، ونتيجةً للصراعات السياسية، اتخذ الإمبراطور الروماني قُسطَنطين الأكبر Constantin مدينةَ بيزنطا Byzantion عاصمةً بدل روما، وسُمّيت (رُومية) ثم (قُسطنطينية) والآن (إستانبول)، واعتنق قسطنطين المسيحية، وأصدر عام (325 م) قراراً باتخاذها ديناً رسمياً للدولة (حبيب بدر: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، ص 292).
وحدثت انشقاقات بين الكهنوت المسيحي، وتمحورت بعد قرون حول الأرثوذُكسية والكاثوليكية، كانت الأرثوذكسية تمثّل الثقافة الشرقية (اليونانية) والنفوذ السياسي البيزنطي، وكانت الكاثوليكية تمثّل الثقافة الغربية (اللاتينية) والنفوذ السياسي الأوربي، وفي سنة (1054 م) أعلن السفير البابوي حرمان بَطْرَك القسطنطينية من الكنيسة، وقذف البَطرك اللعنات عليه، وفي سنة (1204م)، توجّه مقاتلون صليبيون إلى القدس لاحتلالها، فاستباحوا قسطنطينية في طريقهم، ونهبوها بصورة بشعة، فصارت القطيعة بين الكنيستين نهائية. (فراس السَّوّاح: موسوعة تاريخ الأديان، ص 288).
وباسم الإسلام، اقتحم السلاجقة غربي آسيا في القرن (5 هـ= 11 م)، وبعد سيطرتهم على إيران والعراق وكُردستان، توجّهوا نحو موانئ شرقي المتوسط وآسيا الصغرى، ملتقى شبكة طريقَي التجارة العالميين (طريق البخور، وطريق الحرير)، واتخذوا كُردستان قاعدة لاحتلال كثير من ممتلكات بيزنطا في آسيا الصغرى، مستغلّين الصراع بين قسطنطينية وروما؛ حتى إن البابا أُورْبان الثاني أطلق الحملة الصليبية الأولى سنة (1095م)، لاحتلال القدس، وليس للدفاع عن إمبراطورية بيزنطا.
واستكمل العثمانيون المشروعَ الطوراني التوسعي، وزادوا من احتلال ممتلكات بيزنطا، وقفزوا إلى رُومَللي غرباً، وعندما ضاق الخناق على قسطنطينية، اقترح بعض القادة على بطركها الاستعانة ببابا الڤاتيكان، لردّ التهديد العثماني، فقال الزعيم الأرثوذكسي Lukao Megas duxu: " أن نرى عِمامةَ السلطان في قلب المدينة أفضل لنا من أن نرى قبّعة البابا اللاتيني". (مصطفى أوغلو: جذور الحركة الإسلامية في تركيا، ص 83).
وماذا كانت نتيجة موقف الزعيم الأرثوذكسي؟ احتلّ العثمانيون قُسطنطينية سنة (1453م)، ونفّذوا مشروع أَسْلمة السكان وتتريكهم لغةً وثقافة، وسيطروا على أهم مضيقَين (البوسفور والدَّرْدَنيل)، وزحفوا على أوربا الشرقية كالإعصار، وحاصروا ڤينا (عاصمة نمسا) للمرة الثانية سنة (1683 م)، (ول ديورانت: قصة الحضارة، ج 26، ص 103، 104)، وفرضوا الإسلام على أوربا الشرقية، وفرضوا (ضريبة الرؤوس)، فكان جباتهم يأخذون الوسيمين والجميلات من الأطفال غصباً بدل الضرائب، ويربّونهم على الإسلام، ويستخدمون الذكور في الفرق الإنكشارية المقاتلة، ويتخذون الفتيات محظيات لتحسين نسلهم، فالعرق التركي الأصلي معروف بقصر القامة وقلة الجمال.
ولما حلّت جمهورية تركيا محلّ الدولة العثمانية سنة (1923)- السنة ذاتها التي أُلغيت فيها معاهدة سيڤر ووُقّعت فيها معاهدة لُوزان- استكمل آتاتورك مشروع تتريك آسيا الصغرى أرضاً وبشراً، فأزال الأسماء اليونانية وأحلّ محلها أسماء تركية، ورحّل حوالي مليون يوناني من ديار أسلافهم، واستقدم بدلاً منهم البلقانيين المسلمين، وقد مارس في شمالي كُردستان سياسات تتريك الجغرافيا والسكان ذاتها.
الزعيم الكُردي.. أم الزعيم المحتل؟
أية كارثة كانت أسوأ من هذه التي جرّها مبدأ "عِمامة التركي، ولا قلنسوة البابا" على بيزنطا وأوربا والمسيحية؟! نعم، ربما كانت روما تسيطر على قسطنطينية سياسياً، وربما كانت الكاثوليكية تصبح هي المهيمنة، ويخسر البطرك وأعوانه مناصبهم ونفوذهم، وربما كان الظلم يقع على سكان بيزنطا، لكن كانت قسطنطينية ستبقى قسطنطينية ولن تصبح (إستانبول)، وكان السكان سيحتفظون بهويتهم الإغريقية والدينية والثقافية عامة، وما كانت مملكة بأسرها تُمحى من الوجود.
والمؤسف أن كثيرين من زعماء القبائل الكُردية والساسة والمثقفين الكُرد نهجوا طوال 25 قرناً نهج بطرك قسطنطينية، وجسّدوا من خلال مواقفهم شعار" سيف المحتل، ولا سوط الكُردي"، إن حساباتهم الشخصية والعائلية والقَبَلية والدينية والمذهبية والحزبية جعلتهم يرفضون الانقياد لزعيم من بني جنسهم، وحملتهم على الوقوف تحت راية المحتل وفي صفه، غير عابئين- وربما جاهلين- بما تجرّه مواقفهم تلك على الأمة الكُردية من كوارث جيلاً بعد جيل.
حسناً، لنفترض أنّ جهل بعض أجدادنا، وضعف وعيهم القومي، وذهنيتهم الساذجة، وغفلتهم وربما حماقتهم، دفعهم إلى اتخاذ تلك المواقف المدمّرة، لكن ما عُذرنا ونحن في عصر العلم والمعرفة؟ ما عذرنا وكثيرون منا أصحاب شهادات عليا، وأصبحنا على معرفة دقيقة بذهنيات المحتلين الشوفينية؟ ما عذرُنا في رفض زعامة الكُردي، والقبول بزعامة ظلاميين فاشيين أمثال خامنئي والقَرَضاوي وأردوغان؟
متى نُدرك أن أسوأ زعيم كُردي أفضل ألف مرة من زعماء المحتلين أمثال خامنئي والقرضاوي وأردوغان؟ نعم قد لا نرضى عن بعض أفكار زعماء الكُرد ومواقفهم وسياساتهم، وقد يستأثرون ببعض المناصب والمكاسب، وقد تُمارَس المحسوبية في ظل قياداتهم، فيظلمون بعضنا، وقد يسجنون بعضنا، بل قد يشتطّون أكثر فيقتلون بعضنا، لكنهم قطعاً لن يكونوا ضد ثقافتنا وهويتنا ووجودنا القومي.
أما المحتلون فهم ينهبون ثرواتنا، ويرمون ببعض فُتاتها في جيوب بعضنا، ويسخّرونهم لإزالة ثقافتنا ومسْخ هويتنا، وطوال 25 قرناً هل تردّدوا في التنكيل بنا قهراً، وإذلالاً، وسَجْناً، وتشريداً، وتقتيلاً؟ مَن غيرُهم وقف- وما زال يقف باستكبار ووقاحة- ضد وجودنا كأمّة، ويصرّ على احتلال وطننا؟ فأيّ خطر أعظم من هذا؟
يا ساستنا ومثقفينا، حينما نعرف تاريخ أمتنا على الأقل قبل ألف عام، ونفكر في مستقبل أمتنا على الأقل لألف عام، وحينما نضع قضيتنا الجوهرية "وطنٌ محتل، وشعبٌ مستعمَر" نُصب أعيننا، وفي قلوبنا وأحاسيسنا وأذهاننا، وفي كل خلية من خلايانا، عندئذ نكون جديرين باحترام أجيالنا، وعندئذ لن نقع في مصيدة الأنانية والغفلة والحماقة، ولن ننساق في النهج الذي انساق فيه بطرك قسطنطينية.
أجل، عندئذ لن ندخل في تحالفات وتبعيات عقائدية وسياسية وعسكرية مع محور خامنئي (زعيم الفاشية الفارسية)، أو مع محور أردوغان (زعيم الفاشية الطورانية)، أو مع محور القَرَضاوي (زعيم الفاشيات المستعربة الإسلامية)، وعندئذ سنقبل العمل مع كل قيادة كُردية مهما كانت نقائصها، وسنقبل العمل مع كل زعيم كُردي مهما كانت لنا مآخذ عليه، وسنعمل بحب وإخلاص للتنبيه على تلك النقائص والمآخذ، وسيكون شعارنا الكُردستاني الأصيل "عِمامة الكُردي.. ولا قُبّعة التركي"!
ومهما يكن، فلا بدّ من تحرير كُردستان!
إرسال تعليق